وذات مساء اندلعت النيران في ارجاء ذاك المنزل ، أحرقت كل شيء ، ومات الرجل وزوجته البائسة ، ليبقي الابن ذي الاعوام الاثني عشر وحيدا يتيما ، يعالج في المستشفى من اثار تلك الحروق البليغة ، مكث الصبي في المستشفى ثلاث أعوام ،
وحين خرج من هناك كان قد بلغ الخامسة عشر ، حاول عمه الاستيلاء على المنزل ، وأرثه من أموال أبيه الكثيرة ،عن طريق فرض وصاية عليه ، وقرر اصلاح التالف من ذلك المنزل .
لكن ذاك العم توفي في المساء اليوم التالي من خروج الولد من المستشفى في حادث تحطم سيارة كان يستقلها . فجاءت عمته للعيش معه ، وكلما حاول أحد اصلاح المنزل وترميمه ، يحدث ان يموت في ظرف غامض ، جعل الجميع يخافون القدوم لرعاية الصبي . الذي كان بدوره يشكو الوحدة والعزلة ، فكلما خرج للعب مع غيره من الصبية ، يفزع الكل منه ، ويهرب ، واسماه الاطفال طويل الساقين ، وهكذا بدا الجميع يوسمه بالملعون ، ويجتنب الكبار الحديث اليه ، ويخوفون منه ابنائهم ، حتى ظهرت كل تلك الخزعبيلات التي نسجها حوله ، من كان يكره والده المتوفي ، والصبي لا ذنب له في ذاك ، وحده جدكم رحمه الله وإمام المسجد الذي يصلي فيه ، هما من كان يزوه ويواسيه ، ويعلمانه ما تسير من ايات الله ، والكتابة ، حتى شب الغلام على حبهما .
كيف لا وقد كان جدكم له كالأب العطوف ، وهكذا انقطعت اخباره عنا منذ رحيل جدكم ، اي منذ عام تقريبا ، ربما يكون الآن قد كبر بما يكفي ليدير أموال ابيه .
سألت أمي : ولماذا يسمى طويل الساقين يا أمي ؟
أجابت قائلة : بسبب تشوه لحق بساقيه نتيجة الحريق ، اضطر له الاطباء الى بتر قدميه ، وهو يسير الآن برجلين صناعيتين ،
انه يستحق العطف والرحمة ، لا السخرية والنبذ .
-أحسست بشعور غريب يتغلغل في داخلي ، حين انتهت امي من رواية القصة ، شعرت بالذنب تجاه طويل الساقين ،
لا يجب أن اناديه بطويل الساقين بعد الآن ،
استدرت اسأل أمي ، ما اسمه يا أمي ؟
تنحنحت أمي في حرج قائلة : وكان السؤال قد فاجأها، الحقيقة أنا لا اعرف اسمه ، ثم ظهر الحزن على صوتها وهي تضيف . كنت مثلكم اخاف منه ، واجتنب ذكره ، ولكم كان ابي يدعوني للحديث معه حين يأتي به الى منزلنا ، لكني كنت افرق منه ، وارفض مجرد الجلوس معه ، والحديث اليه ، عضت شفتها وهي تضيف نادمة ، نحن كلنا مسؤولون عما حل بذاك المسكين .
قلت لأمي : وماذا ينفع الندم الآن يا أمي ؟ قالت : لا شيء ، وما باليد حيلة ؟ ، قلت ربما نستطيع فعل شيء ؟
أجابت أمي محذرة : اسمعي يا منى لا تحاولي فعل شيء ،
ولا تذهبوا هناك مرة اخرى .. هل سمعت .. والا فالويل لك مني .
ظللت تلك الليلة أفكر في القصة التي اخبرتنا بها امي ، لم استطع ابعاد طويل الساقين عن مخيلتي .
فسألت ابنة خالي وكانت حزينة هي الاخرى لنفس السبب .. دعينا نفعل شيئا اخيرا ..
قالت: وماذا في يدنا، سنعاقب مرة اخرى ، ان ذهبنا هناك ، وهذه المرة بشدة .
أجبت بإصرار وعناد : لا بأس لطالما سنريح ضمائرنا .
ردت هذه المرة والاهتمام باد على وجهها : اخبريني بماذا تفكرين .
قلت لها سنذهب لزيارة المنزل مرة اخرى . اجابت بهلع : لا يمكن ان افعل هذا .. لا يمكن ، قلت لها نادمة : حسنا انسى كل شيء .
انصرفت الى غرفتي افكر ما الذي يمكنني فعله .. استغرقت في التفكير حتى اني لم اشعر بأمي عندما دلفت الى غرفتي.. وانتفضت بشدة حين جلست بقربي متسائلة : مالذي يشغل بال بنيتي الصغيرة . قلت لها : اماه افزعتني .. قالت : ولم ؟
قلت : أخبرك الصدق ، كنت افكر في كل ما دار ، أشعر بأننا أسأنا التصرف بذهابنا هناك ، ربما قلبنا المواجع على الرجل المسكين .
له كل الحق في ان يكره الاطفال .
قالت امي : حسنا وما الذي يمكننا فعله الآن ، لتكفري عن ذنبك ، ولتشعري بالراحة
قلت بعد تفكير : نذهب اليه ونواسيه ، على الاقل هو يعرف جدي وربما يحبه ويفتقده .
قالت امي حسنا انت فتاة شجاعة . ومتى تودين الذهاب ؟
قلت الآن ان امكن . لم اتوقع ان يأتي جواب امي متحمسا :
حسنا ربما حان تكفير ذنب الجميع . هيا استعدي للمغادرة بعد ساعة ، وليرافقنا من يشاء من ابناء اخوتي .
لم استطع احصاء فرحتي ، اخبرت الجميع ، ولكن لم تأت معنا ابنة خالتي واخوتها ، فذهبت مع احمد وبنتا خالتي الاخرى ، برفقة امي الى ذاك المنزل المهجور .
كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة بقليل ، عندما وقفنا بجابن أمي وهي تقرع باب المنزل المهجور ، هذه المرة احسست بالعطف والشفقة وانا اقف امام ذاك المنزل ، قرعت امي بابه اكثر من مرة ،
ولم يجبنا احد . وبعد ان يأسنا من الحديث مع طويل الساقين ،
قررنا الذهاب على أن نعود في صباح اليوم التالي ، وبينما نحن ننصرف من امام المنزل المهجور ، قابلنا عجوزا يستند الى عكاز ، سلمت عليه والدتي بحرارة ، قبل أن تذكره بنفسها قائلة ، انا ابنة الحاج عبدالله ، رحمه الله .
هنا بش العجوز وسعد لرأيتها ، وحيانا جميعا سائلا عن من نكون ، وبعد ان قامت امي بتقديمنا له ، تنحنحت سائلة : كنت قد قدمت مع الصغار لنطل على ابن الراحل فؤاد سلامة ، قال العجوز متأثرا : على سلامة ، لقد توفي قبل ايام ، رددنا مصعوقين : توفي ، كيف ومتى .
قال : رحمه الله جاء الي قبل اسبوع حزينا باكيا ، وعلمت منه انه قابل احد الصبية الاشقياء ، تبادلت النظر مع ابن خالتي احمد ، دون ان اقول شيئا . بينما اكمل الرجل روايته قائلا : هدأت من روعه كما تعودت ، وأخبرته ان يحتسب ويصبر ، وهنا شهق طويلا قبل ان يقول : اسأل الله ان يتوفاني ، فهو ارحم الراحمين ، وليس لي احد بعدك اذهب اليه يا عمي الشيخ .
قال العجوز: رحمته جدا ، ولكن رحمة الله كانت أقرب اليه منا
جميعا ، فقد استيقظت للفجر ذاك اليوم وحاولت ان أوقظه لصلاة الفجر كعاداتي ، ولكنه كان قد ذهب الى جوار ربه ، رحمه الله .
وقال يكمل حديثه مع امي : أتعلمين ترك جزء من أمواله صدقة للايتام ، والجزء الآخر وقفا للمستشفى الذي قضى فيه أعواما ثلاثة .
وبإنصرافنا الى منزل جدي ، كانت قصة طويل الساقين قد وصلت الى نهايتها المحتومة ، نهاية كل بشري على ظهر الأرض
( النهاية)
~ أيان ~
وحين خرج من هناك كان قد بلغ الخامسة عشر ، حاول عمه الاستيلاء على المنزل ، وأرثه من أموال أبيه الكثيرة ،عن طريق فرض وصاية عليه ، وقرر اصلاح التالف من ذلك المنزل .
لكن ذاك العم توفي في المساء اليوم التالي من خروج الولد من المستشفى في حادث تحطم سيارة كان يستقلها . فجاءت عمته للعيش معه ، وكلما حاول أحد اصلاح المنزل وترميمه ، يحدث ان يموت في ظرف غامض ، جعل الجميع يخافون القدوم لرعاية الصبي . الذي كان بدوره يشكو الوحدة والعزلة ، فكلما خرج للعب مع غيره من الصبية ، يفزع الكل منه ، ويهرب ، واسماه الاطفال طويل الساقين ، وهكذا بدا الجميع يوسمه بالملعون ، ويجتنب الكبار الحديث اليه ، ويخوفون منه ابنائهم ، حتى ظهرت كل تلك الخزعبيلات التي نسجها حوله ، من كان يكره والده المتوفي ، والصبي لا ذنب له في ذاك ، وحده جدكم رحمه الله وإمام المسجد الذي يصلي فيه ، هما من كان يزوه ويواسيه ، ويعلمانه ما تسير من ايات الله ، والكتابة ، حتى شب الغلام على حبهما .
كيف لا وقد كان جدكم له كالأب العطوف ، وهكذا انقطعت اخباره عنا منذ رحيل جدكم ، اي منذ عام تقريبا ، ربما يكون الآن قد كبر بما يكفي ليدير أموال ابيه .
سألت أمي : ولماذا يسمى طويل الساقين يا أمي ؟
أجابت قائلة : بسبب تشوه لحق بساقيه نتيجة الحريق ، اضطر له الاطباء الى بتر قدميه ، وهو يسير الآن برجلين صناعيتين ،
انه يستحق العطف والرحمة ، لا السخرية والنبذ .
-أحسست بشعور غريب يتغلغل في داخلي ، حين انتهت امي من رواية القصة ، شعرت بالذنب تجاه طويل الساقين ،
لا يجب أن اناديه بطويل الساقين بعد الآن ،
استدرت اسأل أمي ، ما اسمه يا أمي ؟
تنحنحت أمي في حرج قائلة : وكان السؤال قد فاجأها، الحقيقة أنا لا اعرف اسمه ، ثم ظهر الحزن على صوتها وهي تضيف . كنت مثلكم اخاف منه ، واجتنب ذكره ، ولكم كان ابي يدعوني للحديث معه حين يأتي به الى منزلنا ، لكني كنت افرق منه ، وارفض مجرد الجلوس معه ، والحديث اليه ، عضت شفتها وهي تضيف نادمة ، نحن كلنا مسؤولون عما حل بذاك المسكين .
قلت لأمي : وماذا ينفع الندم الآن يا أمي ؟ قالت : لا شيء ، وما باليد حيلة ؟ ، قلت ربما نستطيع فعل شيء ؟
أجابت أمي محذرة : اسمعي يا منى لا تحاولي فعل شيء ،
ولا تذهبوا هناك مرة اخرى .. هل سمعت .. والا فالويل لك مني .
ظللت تلك الليلة أفكر في القصة التي اخبرتنا بها امي ، لم استطع ابعاد طويل الساقين عن مخيلتي .
فسألت ابنة خالي وكانت حزينة هي الاخرى لنفس السبب .. دعينا نفعل شيئا اخيرا ..
قالت: وماذا في يدنا، سنعاقب مرة اخرى ، ان ذهبنا هناك ، وهذه المرة بشدة .
أجبت بإصرار وعناد : لا بأس لطالما سنريح ضمائرنا .
ردت هذه المرة والاهتمام باد على وجهها : اخبريني بماذا تفكرين .
قلت لها سنذهب لزيارة المنزل مرة اخرى . اجابت بهلع : لا يمكن ان افعل هذا .. لا يمكن ، قلت لها نادمة : حسنا انسى كل شيء .
انصرفت الى غرفتي افكر ما الذي يمكنني فعله .. استغرقت في التفكير حتى اني لم اشعر بأمي عندما دلفت الى غرفتي.. وانتفضت بشدة حين جلست بقربي متسائلة : مالذي يشغل بال بنيتي الصغيرة . قلت لها : اماه افزعتني .. قالت : ولم ؟
قلت : أخبرك الصدق ، كنت افكر في كل ما دار ، أشعر بأننا أسأنا التصرف بذهابنا هناك ، ربما قلبنا المواجع على الرجل المسكين .
له كل الحق في ان يكره الاطفال .
قالت امي : حسنا وما الذي يمكننا فعله الآن ، لتكفري عن ذنبك ، ولتشعري بالراحة
قلت بعد تفكير : نذهب اليه ونواسيه ، على الاقل هو يعرف جدي وربما يحبه ويفتقده .
قالت امي حسنا انت فتاة شجاعة . ومتى تودين الذهاب ؟
قلت الآن ان امكن . لم اتوقع ان يأتي جواب امي متحمسا :
حسنا ربما حان تكفير ذنب الجميع . هيا استعدي للمغادرة بعد ساعة ، وليرافقنا من يشاء من ابناء اخوتي .
لم استطع احصاء فرحتي ، اخبرت الجميع ، ولكن لم تأت معنا ابنة خالتي واخوتها ، فذهبت مع احمد وبنتا خالتي الاخرى ، برفقة امي الى ذاك المنزل المهجور .
كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة بقليل ، عندما وقفنا بجابن أمي وهي تقرع باب المنزل المهجور ، هذه المرة احسست بالعطف والشفقة وانا اقف امام ذاك المنزل ، قرعت امي بابه اكثر من مرة ،
ولم يجبنا احد . وبعد ان يأسنا من الحديث مع طويل الساقين ،
قررنا الذهاب على أن نعود في صباح اليوم التالي ، وبينما نحن ننصرف من امام المنزل المهجور ، قابلنا عجوزا يستند الى عكاز ، سلمت عليه والدتي بحرارة ، قبل أن تذكره بنفسها قائلة ، انا ابنة الحاج عبدالله ، رحمه الله .
هنا بش العجوز وسعد لرأيتها ، وحيانا جميعا سائلا عن من نكون ، وبعد ان قامت امي بتقديمنا له ، تنحنحت سائلة : كنت قد قدمت مع الصغار لنطل على ابن الراحل فؤاد سلامة ، قال العجوز متأثرا : على سلامة ، لقد توفي قبل ايام ، رددنا مصعوقين : توفي ، كيف ومتى .
قال : رحمه الله جاء الي قبل اسبوع حزينا باكيا ، وعلمت منه انه قابل احد الصبية الاشقياء ، تبادلت النظر مع ابن خالتي احمد ، دون ان اقول شيئا . بينما اكمل الرجل روايته قائلا : هدأت من روعه كما تعودت ، وأخبرته ان يحتسب ويصبر ، وهنا شهق طويلا قبل ان يقول : اسأل الله ان يتوفاني ، فهو ارحم الراحمين ، وليس لي احد بعدك اذهب اليه يا عمي الشيخ .
قال العجوز: رحمته جدا ، ولكن رحمة الله كانت أقرب اليه منا
جميعا ، فقد استيقظت للفجر ذاك اليوم وحاولت ان أوقظه لصلاة الفجر كعاداتي ، ولكنه كان قد ذهب الى جوار ربه ، رحمه الله .
وقال يكمل حديثه مع امي : أتعلمين ترك جزء من أمواله صدقة للايتام ، والجزء الآخر وقفا للمستشفى الذي قضى فيه أعواما ثلاثة .
وبإنصرافنا الى منزل جدي ، كانت قصة طويل الساقين قد وصلت الى نهايتها المحتومة ، نهاية كل بشري على ظهر الأرض
( النهاية)
~ أيان ~
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق